كان يوما رائعا و هادئا ، فالشمس تبسط أشعتها على الحقول و النسيم العليل يغزو الأجواء ، والطبيعة تلقي بجمالها على الأراضي الشاسعة شرقي الجزائر ، فالجو ملائما تماما للقيام برحلات صيد في الغابات الشاسعة لمدينة قالمة التي لا طالما جذب مناخها أصنافا كثيرة من الحيوانات البرية للعيش تحت ظلالها.
و بين أشجار الغابات الصنوبرية ، أنطلق
فارس على جواده شاقا طريقه نحو البرية في رحلة صيد ثمينة . كان يبدو على
هذا الشاب ملامح القوة و البأس الشديد ، كما أن وسامته جعلته مميز بين
أقرانه فكل فتاة من قبيلته تتمنى أن يكون من نصيبها ، نظرا لأنه يحظى بكل
صفات الشجاعة و القوة إضافة إلى ذلك كونه محل ثقة و تقدير وسط شيوخ
القبائل ، لكن هيهات فوراء هذا القناع وجه معاكس تمام لشخصه.
![]() |
منطقة حمام المسخوطين في قالمة بالجزائر ..
|
لما حل المساء عاد فارسنا نحو القبيلة مسرعا
على غير العادة حاملا طريدته فوق ظهر جواده مخالفا وجهته المعتادة إلى
بيته نحو مقر سكن شيخ القبيلة . فعند وصوله نزل من على حصانه و أنزل
صيده الذي كان غزالا ذهبي اللون فائق الجمال ، وطلب من المستشار أن يطلب
له شيخ القبيلة في الحال ، فلقد كان من النادر مقابلة الشيخ في هذا الوقت
المتأخر ، لكن مكانة هذا الفارس جعلته يحظى بغايته دون انتظار ، فأمر
شيخ القبيلة بأن يسمحوا له بالمرور فورا .
فدخل فارسنا و ابتسامة كبيرة تعلو شفتاه ،
وسأل الشيخ الفارس عن سبب قدومه في هذا الوقت و عن سر استعجاله بمقابلته ،
متعجبا من الهدية فهو يعلم أن وراءها طلب عظيم ، فوقف الفارس متسمرا
للحظات ثم أجابه بكلمة واحدة قاسية (( جئت لأكسر الأعراف)) ، فأنتفض الشيخ
من مكانه و طلب من مستشاره الخروج و عدم السماح لأي كان بالدخول عليهما ،
و أمسك بكتف الفارس ضاغطا بيده عليها سائلا إياه عن ما يقصد بكلامه هذا
، فضحك الفارس و أستمر في الضحك مستفزا و معلنا غطرسته على الشيخ و
أجابه بأنه أتى إلى هنا ليحظى بموافقة الشيخ على الزواج من أخته (أي أخت
الفارس) و أنه مستعجل و لن ينتظر الإجابة حتى الصباح لأنه يريدها حالا.
وقف الشيخ و هو يترنح قليلا و علت على وجهه ملامح الجدية و الغضب و أجابه بالنفي المطلق و أن يخرج حالا من أمامه فإن أراد الزواج فالقبيلة مملوءة بالحسناوات ، بل و عرض عليه أن يناسبه لكنه رفض .
![]() |
حمام المسخوطين .. من اجمل المناطق السياحية ..
|
عاد الفارس مسرعا وعلامات الغضب تبدو عليه و قابل أخته التي كانت تبادره نفس الحب و أتفق معها على خطة سيبدأ بتنفيذها فجرا .
و ما كاد أن يطلع الصباح حتى خرج الفارس من
مرقده راكبا جواده يدور بين الناس في القبيلة و يصيح معلنا أن هذه الليلة
سيعلن قرانه على أخته و لن يهتم لكلام أي شخص ، و لن يكترث بأي أعراف و
تقاليد ، بل من لم يوافق على هذا الزواج فليغلق فمه و يلزم داره ، هذا
ما كان من كلام الفارس ، أما بقية الناس فقد انقسموا ما بين مؤيد و معارض .
و ما إن حل المساء حتى اجتمعت حشودا كبيرة من الناس الرافضين لهذا الزواج و حملوا أغراضهم وهموا بالرحيل و معهم شيخ تلك القبيلة ، و بقي أنصار قليلون لهذا الفارس و أغلبهم من المجرمين و شاركوه فرحة يومه ، بل و نصبوه مباشرة كزعيم عليهم .
وما هي إلى لحظات حتى ظهر ذلك الفارس وأخذ
يخطب فيهم معلنا أن حفل الزفاف سيكون في مكان غريب نوعا ما ، فبدا الحضور
مستغربين من قوله ، لكنه أزال عنهم ذلك الإبهام بإعلانه أن مقر عرسه سيكون
حمام'الدباغ' ، وهو حمام القبيلة ذو الشعبية الكبيرة لأنهم يؤمنون بقدرة
مياهه على منحهم القوة و الجمال و الشفاء من الأمراض .
وبعد انتهاء الفارس من كلامه أنصرف منتظرا
حلول الليل فيما أخذ أنصاره بالهتاف فرحين بهذه الفكرة لأنها ستجمع الرجال
و النساء في حمام واحد .
حل الظلام و أخذ الأنصار أماكنهم وسط
الحمام و بدأ الصياح و الزغاريد و دقت الطبول معلنة عن بداية العرس ، وبدأ
الرقص و الغناء و توسط الفارس الحضور ممسكا يد أخته التي تزوجها بدافع
رغباته الشيطانية و حضي الشيطان بمكان معهم و انتشر الفساد في ذلك العرس ،
فأخذ الزنا منهم كل مأخذ و كأنها إحدى طقوس عبدة الشيطان .
أستمر ذلك الحفل بشكل عادي إلى غاية الفجر ، ثم حدث شيء مفاجئ ...
لقد توقف العزف وانقطعت الزغاريد و عم المكان سكون غريب ... كل هذا حدث بلمح البصر ، فماذا حصل داخل ذلك الحمام ؟ .
لا أحد يعلم .. لأن جميع من بقوا من
القبيلة كانوا مع الفارس في جوف الحمام . ثم مرت الأيام و الشهور و السنين
، إلى غاية أن قرر سكان تلك القبيلة الذين عارضوا فكرة الزواج وغادروا
أراضيهم ، الرجوع إليها بعد أن سمعوا أنها خالية تماما من السكان .
![]() |
بحسب الاسطورة فهذه الصخور هي اجساد بشرية متحجرة ..
|
فلما وصلوا تفحصوا المكان جيدا فوجدوه فارغا
تماما ، فظنوا للوهلة الأولى أن ذاك الفارس المتغطرس قرر الرحيل هو و
قومه ، لكن جميع ظنونهم ذهبت هباء بعد أن دخل أحد مالكي الحمام السابقين
إليه و قرر إعادة ترميمه و تهيئته ، كانت الصدمة قد عقدت لسانه .. لقد كان
منظرا غريبا جدا ، فالفارس المتغطرس و زوجته (أخته) و جميع الحضور في ذلك
العرس كانوا قد تحولوا إلى تماثيل و منحوتات حجرية ، تسمروا في وضعهم الذي
كانوا عليه و كأن الزمن توقف بهم . فأنتشر الخبر بين الناس و قرروا عدم
الرجوع عن أعرافهم أبدا و نصبو الحمام كعبرة لكل من تخاله نفسه أن يتعدى
على الأصول .
ومنذ ذلك الحين أصبح الحمام 'الدباغ' في
قالمة شرقي الجزائر مقصد الآلاف من السياح الأجانب و المحليين لكي يعيشوا
أجواء تلك الحادثة الأسطورية بعد أن اعتبروا أن ما حل بهم ما هو إلا عذاب
وعقاب من الله على تصرفاتهم ، و أضيف إليه لقب حمام المسخوطين لاعتقادهم
بأن الله أحل سخطه على أولئك الذين كانوا في العرس الفاجر .
القصة نوعا ما تعتبر أسطورية رغم أن
التماثيل الحجرية لا تزال منصوبة في الحمام إلى يومنا هذا , لكن القدرات
الأستشفائية لمياه ذلك الحمام تعتبر حقيقية فهو رمز أسطوري يحمل ورائه
أحد أروع قصص التراث الجزائري على مر تاريخها .