مدينة قديمة تطل من ركام الماضي لتبهر العالم بجمالها و سحرها الأخاذ و تثير الكثير من التساؤلات حول الحكمة التي أودعها القدماء بين جدرانها , أهرام عجيبة ترتسم صور الآلهة على جدرانها مرتين سنويا و ملاعب كرة عمرها عشرات القرون و مراصد فلكية و عشرات المباني الغامضة الأخرى. وإضافة إلى جمال مبانيها , ازدانت المدنية أيضا بغموض كهوفها المليئة بالإسرار العتيقة و انفردت كذلك بآبارها المدورة السحرية التي تقول الأسطورة القديمة إن كهنة اله المطر كانوا يقفون عند حافتها ليضحوا بالفتيات العذراوات ثم يلقون بأجسادهن إلى مياه البئر أملا في أن يجود الإله عليهم بالمطر لتزدهر زراعتهم و تدور عجلة الحياة.
منذ مطلع الألف الثاني قبل الميلاد شيد شعب المايا حضارة عظيمة في جنوب المكسيك و شمال أمريكا الوسطى تميزت عن بقية حضارات الميسوامريكا (الحضارات التي نشأت في أمريكا الوسطى و الجنوبية قبل غزو الرجل الأبيض) في أنها الوحيدة التي طورت نظاما متكاملا للكتابة كما كان لها باع طويل و انجازات عظيمة في مجال العمران و الفن و الفلك و الحساب إذ إن المايا عرفوا الصفر و وضعوا له علامة خاصة منذ القرن الأول الميلادي مما مكنهم من إجراء عمليات حسابية مليونية و جعل تقويمهم السنوي من أدق التقاويم التي عرفها العالم. وحسب تقويم المايا فأن حضارتهم تأسست مع بداية دورة الرابعة للعالم والتي بدئت في 11 آب / أغسطس عام 3114 قبل الميلاد و ستنتهي في 21 كانون الأول / ديسمبر 2012 (للمزيد من التفاصيل راجع مقالة القيامة أو نهاية العالم في عام 2012).
في القرن
التاسع للميلاد بدئت المناطق الحضرية للمايا بالانحسار و التراجع وهجر
السكان العديد من المدن الكبيرة و المزدهرة بالتدريج في ظاهرة أثارت
استغراب و دهشة العلماء الذين لا يعرفون حتى الآن الأسباب التي أدت إلى
هذا الاضمحلال البطيء ففي حين عزاه البعض إلى الحروب و المشاكل الداخلية
أرجعه آخرون إلى الأمراض و الأوبئة فيما يرى فريق ثالث أن الجفاف و القحط
الذي استمر لقرابة قرنين كان هو السبب الرئيسي في تراجع حضارة المايا
وانحسارها , إلا أن ذلك لا يعني على الإطلاق انقراض المايا كشعب , فعندما
قدم الغازي الاسباني في مطلع القرن السادس عشر كانت المنطقة لاتزال مأهولة
بشعب المايا و كان هناك الكثير من المايا الذين باستطاعتهم قراءة
المخطوطات القديمة التي ضاع معظمها مع الأسف بسبب إحراقها من قبل القساوسة
المبشرين باعتبارها كتب الشيطان , و هناك اليوم الكثير من الناس في
المكسيك و أمريكا الوسطى يعتبرون أنفسهم أحفاد المايا.
تشيشن ايتزا هي إحدى مدن المايا المقدسة و التي تصور لنا عظمة حضارتهم و ازدهارها في حين كانت أجزاء كبيرة من العالم القديم لازالت ترزح تحت الظلام و الجهل , و يعتقد العلماء إن المدينة تأسست في القرن السادس الميلادي و اكتسبت أهميتها الدينية و الاقتصادية و السياسية بالتدريج خلال القرون التالية.
البئر المقدسة حيث كانت تقدم الاضحية البشرية
|
تشيشن ايتزا (Chichen Itza )
تعني "عند حافة أو فم بئر ايتزا" , و ايتزا هم قبيلة أو مجموعة عرقية
سكنوا منطقة شمال شبه جزيرة يوكتان و كان لهم نفوذ سياسي و اقتصادي قوي
استمر لقرون , و يعتقد بعض الباحثين إن التسمية بحد ذاتها مشتقة من كلمة
"سحر" و لذلك فأن الترجمة الاسبانية للاسم تعني "بئر الساحرات" و البئر
المقصودة هنا هي نوع من العيون أو الواحات الصغيرة التي تعتمد على المياه
الجوفية و التي تسمى بلغة المايا "سينتو" و التي تنفرد بهما منطقة شبه
جزيرة يوكتان و بعض جزر الكاريبي , و قد تميزت منطقة تشيشن ايتزا بوجود
بئرين من هذا النوع تنضحان بالماء طيلة أيام السنة و لأن المنطقة جافة و
أنهارها جوفية لذلك فقد اكتسبت هذه الآبار أهمية كبيرة وكانت عامل جذب
رئيسي للسكان و لتأسيس مدينة تشيشن ايتزا. وأشهر هذين البئرين هي المسماة
بالبئر المقدسة أو بئر التضحية و هي أشبه بالواحة الصغيرة بقطر 60 مترا
يحيط بها و يعلوها جرف صخري حاد , و طبقا للمصادر التاريخية للمايا و
للغزاة الأسبان فأن هذه البئر كانت مكرسة لعبادة اله المطر و كان يحج
إليها الزوار من جميع أنحاء البلاد ليقدموا الأضحية و القرابين التي
تتراوح ما بين الحلي الذهبية و الفضية و الأواني و الأدوات المنزلية و كذلك
الأضحية الحيوانية و البشرية , فبعض المصادر الاسبانية تذكر بأنه في
مواسم القحط و الجفاف كان الكهنة يختارون الفتيات العذراوات الجميلات و
يضحون بهن عند حافة البئر ثم يلقون بأجسادهن إلى مياه البئر , و قد أكدت
التنقيبات الحديثة صحة ما كتبه المؤرخون إذ عثر الغواصون في قاع البئر على
الكثير من الأشياء من بينها هياكل عظمية بشرية , لكن الهياكل لم تقتصر
على الفتيات و النساء و إنما ضمت أيضا العديد من الأطفال و الرجال.
يعتقد
علماء الآثار بان المدينة تعرضت في القرن العاشر الميلادي للغزو و
الاحتلال من قبل احد ملوك التولتك لذلك فأن الأبنية الأثرية في المدينة
يمكن تقسيمها إلى نوعين , الأول يخص الفترة السابقة للغزو و تحمل طابع
المايا المعماري أما الثانية فيمكن تمييزها من خلال التمازج الواضح لفن
العمارة لكل من حضارتي المايا و التولتك , و اغلب أبنية المدينة القائمة
اليوم تنتمي إلى الصنف الثاني و من ضمنها هرمها المدرج. وإضافة إلى فن
العمارة فأن التولتك جلبوا معهم إلى المدينة آلهتهم و عاداتهم وطقوسهم التي
تميزت بالتضحية بعدد كبير من البشر خلال كل مناسبة دينية.
في
القرن الثالث عشر الميلادي تراجعت الحياة في المدينة و بدا جليا أنها
هجرت من قبل اغلب سكانها و قد يكون السبب في ذلك هو ازدهار مدينة مايابان
القريبة و التي ازدهرت آنذاك و أضحت عاصمة المايا السياسية و الاقتصادية ,
لكن تشيشن ايتزا احتفظت بمكانتها الدينية لقرون لاحقة فكان الكثير من
حجاج المايا يقصدونها وغالبا ما كانوا يجلبون معهم أضحيتهم البشرية ليلقوا
بها إلى قاع البئر المقدسة.
صورة توضح ما يحدث في يومي الانقلاب الربيعي و الخريفي اذ تشكل اشعة الشمس على سلم الهرم صورة لأفعى كبيرة تهبط الى الارض
|
هناك
الكثير من الأبنية و الأماكن السياحية في تشيشن ايتزا قد يكون أكثرها
شهرة هو هرم المدينة المدرج المكرس للآله كيوكيولكان و هو اله قديم صوره
المايا على شكل أفعى عظيمة مجنحة أي أشبه ما يكون بالتنين الصيني , و قد
اطلق الأسبان اسم "القلعة" على الهرم وهو يتكون من تسع طبقات هي عدد طبقات
العالم السفلي في معتقدات المايا. قاعدة الهرم مربعة و يبلغ ارتفاعه
الكلي 30 مترا من ضمنها 6 أمتار هي ارتفاع المعبد الذي يعلو قمته , ومن
عجائب هذا الهرم هو سلالمه إذ إن في كل جهة من جهاته الأربعة هناك سلم
يرقى إلى المعبد في القمة و يتكون كل سلم من 91 درجة باستثناء السلم
الشمالي الذي يتكون من 92 درجة و بجمع عدد الدرجات في السلالم الأربعة
نحصل على عدد أيام السنة حسب تقويم المايا و الذي يعتبر من أدق التقاويم
البشرية من حيث نسبة الخطأ. و هناك عجيبة أخرى في هذا الهرم و التي تدل
على إبداع و دقة المعمار القديم و تعتبر من أكثر عوامل الجذب السياحي
للمنطقة , و هذه العجيبة تتجلى لمرتين في السنة في يومي الاعتدال الخريفي و
الربيعي ففي هذين اليومين تلقي الشمس بظلالها على الجزء الشمالي من
المعبد باستثناء الجزء الأعلى من السلم الذي يبدو من خلال الظلال التي
تلقيها عليه طبقات الهرم كأنه متصل بجسد واحد نوراني مع رأس الثعبان الذي
يرمز إلى الإله كيوكيولكان عند قاعدة السلم و يخيل حينها لمن يراه بأن
أفعى عملاقة تهبط إلى الأرض من أعلى الهرم.
إضافة
إلى الهرم المدرج تحتوي تشيشن ايتزا على سبعة ملاعب ضخمة للعب الكرة
ويعتبر احدها هو الأكبر على الإطلاق الذي تم بناءه في تاريخ حضارات
الميسوامريكا اذ يبلغ طوله 166 مترا و عرضه 68 مترا و يحده من الجانبان
حائطان صخريان بارتفاع 12 مترا علق على كل منهما حلقة صخرية يعتقد العلماء
بأنها كانت تمثل الأهداف التي ينبغي على كل فريق إدخال الكرة المطاطية
إليها (للمزيد حول لعبة الكرة الميسوامريكية القديمة راجع مقالة : لعبة
الموت .. من يخسر يفقد حياته!).
هناك
أيضا بناء أخر يجذب اهتمام الزوار يسمى المرصد الفلكي حيث تعلوه قبة صخرية ,
فالمايا كانوا مشهورين بدقة ملاحظاتهم الفلكية و حساباتهم المذهلة لحركة
الكواكب خاصة بالنسبة إلى أناس لم يكونوا يستعملون سوى عيونهم المجردة
لمتابعة و مراقبة الأجرام السماوية.
هناك
أيضا حائط الزومبانتلي الذي تغطيه صور الجماجم و الذي يوضح كيف كان
المايا و غيرهم من أمم الميسوامريكا يعلقون رؤوس الأضحية البشرية و رؤوس
أعدائهم في الحروب على هيكل ضخم ينتصب عادة بالقرب من هرم المدينة و
معبدها و يبدو للعيان كأنه شجرة عملاقة من الرؤوس البشرية.
تحوي
المدينة أيضا مجموعة من الكهوف التاريخية المقدسة لدى المايا , احدها
يبعد مسافة 4 كيلومترات عن أطلال المدينة و يحتوي على العديد من الآثار و
النقوش و قد تم تحويله إلى متحف في الآونة الأخيرة.
هناك
آثار كثيرة أخرى في تشيشن ايتزا مثل معبد الألف عمود و معبد كوكب الزهرة و
معبد المحاربين إضافة إلى آبار المدينة التاريخية التي لازالت تنضح
بالماء حتى اليوم , و يمكن للسياح دخول بعض آثار المدينة فيما يحظر ذلك
بالنسبة إلى آثار أخرى مثل الهرم المدرج الذي تم منع الزوار من تسلقه بسبب
سقوط امرأة عجوز من على سلمه عام 2006 مما تسبب بموتها.
المصدر
المصدر