مدينة قديمة يلفها السحر و الغموض نحتت
بيوتها و معابدها و قبورها في الصخر فسميت لذلك بالمدينة الوردية , كانت
يوما ما محطة للقوافل امتزجت فيها الحضارات و الثقافات و رفل سكانها بالعز و
الغنى لقرون , و لكن دوام الحال من المحال , فقد جار عليها الدهر و هجرها
أهلها و صارت أطلالا تحاك حولها الأساطير , فتارة هي مساكن للجان و أخرى
مخبأ للكنوز المنسية , نسيها الناس و احتجبت خلف جبالها الوعرة لأكثر من
ألف عام , ثم أطلت مرة أخرى لتسحر العالم بجمالها الأخاذ و ليتدفق إليها
السياح و الزوار من كل حدب و صوب.
مدينة كاملة نحتت من الصخر و لا يمكن الدخول اليها الا من ممر ضيق يخترق الجبال
البتراء
مدينة قديمة تقع على مسافة 250 كم الى الجنوب من العاصمة الأردنية عمان
, احتضنت الصخور الوردية لوادي موسى أطلالها الساحرة , و قد سمي الوادي
نسبة إلى نبي الله موسى الذي يعتقد انه أقام فيه مع قومه لردح من الزمن
قبل دخولهم إلى ارض فلسطين , و حسب بعض الروايات , فأن هذا المكان هو الذي
ضرب فيه موسى الحجر فتدفقت منه اثنتا عشر عينا على عدد أسباط بني إسرائيل
, و على الجبل الذي تنتصب البتراء على سفحه , يعتقد بأن النبي موسى دفن
أخاه هارون هناك و لذلك سمي الجبل بجبل هارون , و هذه المنطقة رغم انها
ذات طبيعة صحراوية الا ان الإنسان سكنها منذ أقدم العصور , ففي نهاية
الألف الثاني قبل الميلاد كانت هذه الأرض جزءا من مملكة الادوميين , و هم
من الأقوام السامية (1) الذين جاء ذكرهم في
التوراة , حيث يبدو ان علاقتهم مع العبرانيين (بنو إسرائيل) لم تكن جيدة
فلم يسمحوا لموسى بعبور أرضهم لدخول فلسطين , و رغم ان الادوميين ذكروا في
الألواح الأشورية في حوالي القرن الثامن قبل الميلاد الا ان تاريخهم
يشوبه الكثير من الغموض و ذلك لأنهم لم يتركوا خلفهم لغة مكتوبة , و يبدو
أنهم استغلوا فرصة اكتساح الملك البابلي نبوخذ نصر لمملكة يهوذا اليهودية
في القرن السادس قبل الميلاد و ترحيله لسكانها من اليهود قسرا الى ارض
بابل , لذلك انتقل الادوميون الى ارض فلسطين تاركين أرضهم الممتدة جنوب
البحر الميت للأنباط , و هم قبائل سامية كانوا يتكلمون اللغة الآرامية ,
أسسوا مملكة صغيرة و اتخذوا من البتراء عاصمة لهم , و البتراء هو الاسم
الروماني للمدينة اما الأنباط فكانوا يطلقون عليها "سلع" او "رقيم" , و قد
تميزت المدينة بموقع جغرافي استراتيجي و مهم لتوسطها طريق القوافل
التجارية القادمة من بلاد فارس و العراق و اليمن باتجاه الشام و مصر , و
قد ساهمت الجبال و الصخور الرملية المحيطة بالمدينة في تحويلها الى ما
يشبه الحصن الطبيعي فأصبحت محط رحال قوافل التوابل و العطور و الصمغ العربي
و غيرها من البضائع النفيسة , و كان الأنباط يجبون الضرائب و المكوس من
هذه القوافل المارة بأرضهم مقابل الحماية من اللصوص و قطاع الطرق كما
كانوا يشترون البضائع الوافدة من الشرق فيبيعونها بأسعار مضاعفة في غزة و
دمشق و مصر , و قد أدت هذه الحركة التجارية المزدهرة الى تدفق الأموال و
الثروات على المدينة فأصبحت إحدى أغنى مدن ذلك الزمان و تفنن أهلها
الأثرياء في تشييد الصروح العظيمة التي نحتوها في الصخور الوردية لوادي
موسى و لذلك سميت البتراء بـ "المدينة الوردية" , و كانت بعض هذه الصروح
مخصصة للآلهة و أخرى كقبور للموتى , كما ان بيوت السكان حفرت في جوف الصخر
أيضا , و ربما تكون أعظم انجازات الأنباط هي نظام الري الرائع و الدقيق
الذي أقاموه في المدينة , فقد تحكموا بمياه العيون و الآبار عن طريق إنشاء
السدود و الخزانات و أوصلوا الماء الى كل جزء تقريبا من أجزاء المدينة , و
في الحقيقة ان استمرار الحياة و ديمومتها في البتراء تعود بالدرجة الأولى
الى هذا النظام الاروائي الدقيق الذي ساعد السكان على تحمل البيئة
الصحراوية و القاحلة المحيطة بهم , و من الناحية الثقافية فقد تأثر أنباط
البتراء بجيرانهم العرب كثيرا , فتحولت لغتهم تدريجيا الى العربية و عبدوا
الآلهة العربية ذو شرى و اللات و هبل و مناة و العزى , و يبدو ان سكان
المدينة كانوا خليطا من العرب و الأنباط و كانت أسماء بعض ملوكهم عربية.
في القرن الرابع قبل الميلاد قام الاسكندر المقدوني بمهاجمة آسيا فدحر جيوش الإمبراطورية الاخمينية الفارسية و أسقطها و وصلت جحافله حتى الهند , و قد توفى الاسكندر شابا في بابل فتقاسم إمبراطوريته المترامية الأطراف جنرالات جيشه , فتأسست دولة البطالسة في مصر و دولة السلوكيين في العراق , و قد عرفت هذه الحقبة التاريخية بالعصر الهيليني و تميزت بامتزاج الفن و الثقافة الشرقية مع الإغريقية , و قد استغل الأنباط لفترة الحروب هذه و عدم الاستقرار التي شملت منطقة الشرق الأوسط فوسعوا مملكتهم الصغيرة ليستحوذوا على أجزاء كبيرة من الشام و سيطروا بشكل كامل على طرق التجارة بين الشرق و الغرب و سكوا العملة المعدنية بأسم ملوكهم , كما تأثروا بشكل واضح بالثقافة الهيلينية و يبدو هذا التأثر جليا في اسلوب النحت و الزخرفة الذي استخدموه في بناء صروحهم و معابدهم و هو مزيج من الفن الفرعوني و الإغريقي.
فلم فيديو عن البتراء يظهر بعض معالمها
|
بقيت
البتراء عاصمة لمملكة الأنباط لقرابة الخمسة قرون , الا انها فقدت
استقلالها و سقطت بيد الرومان عام 106 للميلاد , بعد عام كامل من الحصار ,
و أصبحت جزءا حدوديا في الإمبراطورية الرومانية , و سرعان ما بدئت أوضاع
المدينة تتدهور بعد الاحتلال و ذلك لعدة أسباب , منها الحروب المستمرة بين
الروم و الفرس الساسانيين و كذلك بين الممالك العربية التابعة لهاتين
الإمبراطوريتين و هم الغساسنة في الشام و المناذرة في العراق , و قد كان
لهذه الحروب أثرها المخرب على الحركة التجارية , كما يعتقد بأن البتراء
استبيحت أكثر من مرة على يد الجيش الفارسي أثناء غاراته المتكررة على
الحدود الرومانية في الشام , و مما زاد الطين بله هو ان القوافل التجارية
بدئت تحول طريقها تدريجيا الى مدينة تدمر التي أخذت تبرز كقوة تجارية و
عسكرية صاعدة منذ أوائل القرن الثالث للميلاد , كما ان الطبيعية الجبلية
المحيطة بالمدينة و التي ساهمت في صعود نجم البتراء كان لها اليد الطولى
أيضا في القضاء عليها , إذ تعرضت المدينة لعدة زلازل مدمرة في القرن
الرابع للميلاد , و نتيجة لكل هذه العوامل أنفة الذكر فقد انتهت البتراء
كمدينة منذ مطلع القرن الخامس للميلاد , الا انها استمرت كمركز ديني مسيحي
حتى وصول جحافل جيوش مسلمين الى بلاد الشام في القرن السابع , و خلال
العصور الوسطى نسيت المدينة تماما و صارت مرتعا للصوص الذين خربوا الكثير
من أثارها بحثا عن الكنوز القديمة , و رغم ان العرب و خصوصا القبائل
البدوية الساكنة في المنطقة كانوا على علم بوجود آثار البتراء , الا ان
العالم الغربي لن يسمع عن البتراء الا في عام 1812 عندما زار أطلالها و
كتب عنها الرحالة الغربي يوهان لويس بوركهاردت , و في عام 1839 نشر الرسام
ديفيد روبرتس عدة لوحات كان قد رسمها عن معالم المدينة التاريخية , و قد
أثارت هذه اللوحات إعجاب و فضول الغربيين بشدة و منذ ذلك الحين تدفقت
الرحلات الى المدينة من اجل التنقيب و السياحة , و في عام 1985 أضافت
اليونسكو مدينة البتراء الى قائمة مواقع التراث العالمي , كما انتخبت في
عام 2007 كواحدة من عجائب الدنيا السبع الجديدة.
هناك
الكثير من الآثار و المواقع الرائعة في المدينة , و الزائر لها اليوم ,
يحط رحاله أولا في بلدة وادي موسى القريبة و من هناك يمكنه التوجه مشيا او
على ظهور الحيوانات نحو اثار البتراء الواقعة في الجبال المقابلة للبلدة ,
و ربما يكون أكثر ما يبهر السائحين عند ورودهم الى المدينة هو المدخل
المؤدي اليها و يسمى السيق و الذي يعتقد انه مشتق من كلمة "شق" العربية ,
اذ انه عبارة عن ممر طويل يمتد لأكثر من ألف متر مخترقا صخرتين عظيمتين
يصل ارتفاعهما في بعض الأماكن الى 91 – 182 مترا , و يشعر الزائر أثناء
سيره داخل السيق بأنه في عالم آخر خارج الزمان و المكان و يضفي التمازج
الجميل لألوان الصخور المختلفة المحيطة بالممر المزيد من السحر و الغموض
على المكان , و عند الخروج من السيق يجد الزائر نفسه أمام احد أجمل و أشهر
آثار البتراء و هو مبنى الخزانة الذي نحت في قلب الصخور الوردية بارتفاع
الأربعين متر تقريبا , و سمي المبنى بالخزانة لأن البدو في المنطقة كانوا
يعتقدون بأنه يضم كنزا قديما , و هناك الكثير من الآثار الأخرى في البتراء
التي تجذب السائحين مثل المدرج الروماني و الدير و قصر البنت و المحكمة و
معبد المدينة و كلها نحتت في الصخر و أبدع الفنان النبطي القديم في قطعها
و زخرفتها.
(1) السامية (Semitic) ليست
قومية او انتماء اثني و إنما تطلق على مجموعة من اللغات البشرية ذات
الخصائص المتشابهة كالعربية و اليهودية و السريانية و الامهرية (لغة
إثيوبيا الرسمية) و المالطية (اللغة السامية الوحيدة ضمن الاتحاد الأوربي)
إضافة الى لغات العديد من الأمم و الشعوب القديمة كالاموريين و
الكنعانيين و الاكديين و الفينيقيين و الأشوريين .. الخ , فرغم بعض
التشابه الجيني الذي أظهرته الأبحاث العلمية الحديثة لكن لا يوجد أي دليل
قاطع يثبت رجوع كل هذه الأمم و الأقوام الى أصل واحد , و في العصر الحديث
ظهر مصطلح معاداة السامية (Anti-Semitism) و هو يطلق حصرا على معاداة
اليهود حول العالم و لا يشمل غيرهم من الشعوب السامية , فالعربي المعادي
لليهود يسمى أيضا (في الغرب) معادي للسامية , و ينبغي التذكير بأن المناطق
السامية شهدت ظهور بعض أعظم الحضارات في العالم كما ان الديانات السماوية
الثلاث التي تسمى بالأديان الإبراهيمية هي سامية الأصل , فموسى (ع) كان
يهوديا و المسيح (ع) كان يتكلم الآرامية و محمد بن عبد الله (ص) كان
لسانه عربيا.
المصدر
المصدر